هل يخوض لبنان معركة النّيوليبرالية؟
تعرُض الأزمة الاقتصاديّة الحادّة التي يمرّ بها لبنان، صورة بانوراميّة لنتاج تراكمات سياسيّة، تحمل في طياتها بذور التّناقضات والصّراعات، ونهجاً اقتصادياً ريعياً غير منتج ومتجذّراً في البلاد منذ نشأة الجمهوريّة.
وجاءت ثورة 17 تشرين لتكشف مكامن الفساد والخلل السّياسي، الذي يعاني منه لبنان منذ عقود، وفق ملامح مشروع نيوليبرالي مثير للجدل ظهر خلال تسعينيات القرن الماضي، ووصل معه الاقتصاد في الوقت الراهن إلى مرحلة الانهيار.
فهل يمكننا إطلاق صفة النيوليبرالية على نظام لبنان الاقتصادي؟ وإلى أيّ مدى أثّرت بنية النّظام السياسي الفاسد على الوضع الاقتصادي الرّاهن؟ وما هي الحلول المطروحة للخروج من مصيدة النّيوليبراليّة؟
الحريري يُكمل المشروع
يؤكد النّاشط السّياسي عامر جلول لـ “أحوال” أنّ النّيوليبراليّة بدأت سنة 1966، تحديدًا مع ضرب إمبراطوريّة «إنترا»، التي كانت إحدى ضحايا الهجمة النّيوليبراليّة التي قادتها الولايات المتّحدة، لضرب الرّأسمال الوطنيّ، ومنع لبْننة الإقتصاد، على الرّغم من أنّ النّيوليبراليّة حينها، كانت حبيسة النّقاشات الجامعيّة.
ويتابع، هذه كانت أولى هجمات النّيوليبراليّة، ثم مع إنتهاء الحرب اللّبنانيّة، كانت الدّولة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن جاء رفيق الحريري من أجل تكملة هذا المشروع، طبعًا لم يكن لوحده، كان الجميع يعاونه، وبدورهم يستفيدون من هذه السّياسة، في خصخصة المرافق العامّة، وأملاك الدّولة.
فساد متناسل
ويضيف جلول، شرارة ثورة 17 تشرين كانت بسبب فساد عمره ثلاثين سنة؛ فإنّ الفساد ليس وليد اللّحظة، وليس فساداً إدارياً أو مالياً؛ إذ أنّ جوهر النّيوليبراليّة، هو بقاء الأقوى، وإنتاج طبقة رأسماليّة جشعة، هدفها تكديس الثّروات وتحويل الدّولة من مؤسّسات عامّة هدفها خدمة الشّعب، إلى مؤسّسة خاصّة، ذي صلاحيّات محدودة ، تهدف إلى حماية الرّأسماليّة من خلال مؤسّساتها الأمنيّة والعسكريّة والبيروقراطيّة والمؤسّسات التعليميّة.
الإنسان قبل السّياسة
ويشير جلول إلى أنّه حتى لو تم إختراق السّلطة من خلال مجلس النّواب أو غيرها من مؤسسات دستوريّة، لن يُحدث هذا الإختراق فرقاً ملموساً في اللّعبة والنّظام السّياسي، لأنّ فلسفة النّظام هي الحائط الأول لأيّ محاولة إصلاح، فلا بدّ من مواجهة تلك الفلسفة القاتلة، بإيجاد فلسفة جديدة، تهدف إلى أنسنة المؤسّسات وإصلاح الإنسان قبل الكيان السّياسي.
ولادة الطّائفيّة
ويلفت جلول إلى أنّ لبنان تحوّل من دولة إلى دويلات طائفيّة متصارعة. ففي سنة 1989 تم وضع اتّفاق الطّائف، الذي أرسى حكم الطّوائف والمذاهب، وهذه إحدى خصائص النّيوليبراليّة، ومصدر قوّة هذه الفلسفة والعقيدة الثّلاثية القائمة على السّياسة والإقتصاد ونمط العيش، هي المجتمعات الإثنيّة، وتكمن ذروة قوّتها في المجتمعات، التي تكثر فيها الإثنيّات والطّوائف، التي تقوّض الدّولة وتحوّلها إلى شركات يتشارك فيها الجميع، ومهمّة هذه الدّولة أو الشّركة حماية مصالح هؤلاء، وهذا ما حصل في لبنان تماماً.
ويتابع، إذا تعمّقنا أكثر، نرى أنّ الكثير من مرافق الدّولة مملوكة من شركات خاصّة مثل الاتّصالات وغيرها، فهذه حوّلت منهج الدّولة، الذي يقوم أساساً على المنفعة العامّة، دون أيّ أرباح، إلى منفعة خاصّة مع أرباحٍ طائلة.
ضرب رأس الأفعى
ويؤكد جلول أنّ الحلول لهذه الفلسفة أو العقيدة الثلاثيّة، تحتاج إلى جرأة كبيرة لمواجهتها، وهي كبح عنان الشّركات، التي تسيطر على الدّولة والتي تتغلغل في السّلطة التّشريعيّة والتّنفذيّة والمؤسّسات العامّة.
ويقول، سنة 1929 بعد الكساد الكبير تم إنتقاد اللّيبراليّة التّقليديّة التي أوصلت العالم إلى كسادٍ مُرعب؛ حينها طُرحت نظريّة الكينز، التي تقول بتدخّل الدّولة، وتحويلها إلى دولة تدخليّة بعد أن كانت دولةٍ حارسة، قائمة على مقولة : “دعه يعمل، دعه يمر”. ولكن قبل ذلك، لا بدّ من إنهاء ما يسمى بالدّيمقراطيّة التوافقيّة، التي أنهت قاعدة معارضة وموالاة.
إنّ جوهر الدّيمقراطيّة هو المعارضة والموالاة، ولكن في لبنان فهي غير موجودة؛ فالكلّ يجلس على ذات الطاولة ويتقاسمون الأرباح فيما بينهم، هذه الخطوة الأولى لمواجهة النّيوليبراليّة، أمّا الخطوة الثّانية فتكون بإصلاح مؤسّسات الدّولة، حيث تستطيع أن تكون فاعلة في القضايا الإجتماعيّة وغيرها.
الفساد السّياسي
ويشدّد على أنّ المشكلة في لبنان هي في النّظام السّياسي، الذي يقوم على تكريس الطائفيّة في الوظائف، بمعنى أنّ التّوظيفات لا تنظر إلى كفاءة الإنسان، إنما إلى طائفته، ما أدى إلى إهتراء بنيوي في الكيان السّياسي اللّبناني.
مراحل تطوّر الاقتصاد
بدوره يقول المحلّل الاقتصادي د. بيار الخوري، علينا أن ننظر إلى مرحلتين من تطوّر النّظام الاقتصادي اللّبناني. المرحلة الأولى التي انتهت مع بداية الحرب الأهليّة، والتي كانت قوّة القطاع الخاصّ فيها وسيطرته على أولويات الدّولة، مرتبطة بالوظيفة الإقليميّة لهذا القطاع، وقدرته على استجلاب القيمة المضافة للاقتصاد اللّبناني. ورغم هذه القوة الرّاجحة للقطاع الخاصّ، استطاعت الشّهابيه أن تقيم نوعين من إعاده التّوزيع، وقسمة الثّروة من خلال سياسة إنماء المناطق.
أمّا المرحلة الثّانية، أي ما بعد الحرب، اختلف وضع القوى الاقتصاديّة، كما دور القطاع العامّ بذلك الذي كان قبل الحرب، بسبب فقدان الدّور الاقتصادي الإقليمي للبنان.
تحالف سياسي اقتصادي
ويتابع الخوري، أعطى مشروع الإعمار أوراقاً كثيره للقطاع الخاصّ، خصوصاً القطاعين المصرفيّ والعقاريّ؛ وأطلق يده في تحقيق الأرباح، ولكن في نفس الوقت حصل ذلك بتحالف مع طبقة سياسية هامشيّة في الاقتصاد، لا بل حصل اندماج بين تلك القطاعات وهذه الطّبقة، وهذا بعيد تماماً عن توصيف الرأسماليّة النّيوليبراليّة.
وهنا يلفت إلى تشكيل قسمة واضحة ما بين الوحدات الاقتصاديّة الكبرى و السّلطة، وإذا كان يمكن توصيف الاقتصاد اللّبناني بالاقتصاد الحر أو اللّيبرالي قبل الحرب، فهو لم يعد كذلك البتّة بعدها.
اقتصاد المافياكراسيّة
لقد تحوّل الاقتصاد اللّبناني إلى اقتصاد مجموعات مصالح خاصّة غير منتجة، وغير قادرة على توسيع مستدام للسّوق على المدى البعيد. فالنّيوليبراليّة لا تعني عدم الانتاج ولا تعني الرّيع، بل تعني بشكل أساسي إطلاق حريّة الرّبح، للوحدات الأقوى في الاقتصاد على حساب القوى الأضعف. هذا مختلف تماماً عمّا يحصل في لبنان. إذ أنّ اقتصاد مجموعات المصالح الخاصّة يمكن تشبيهه باقتصاد المافياكراسيّة وهي نوع من الاقتصادات الأسوأ في جمهوريّات الموز.
ناديا الحلاق